الشاعر والمفكر عبد الله البردوني قصّة من الماضي
خذها فديتك يا شقيقي
ذكرى أرقّ من الرحيق
وألذّ من نجوى الهوى
بين العشيقة والعشيق
خذها أرقّ من السَّنا
في خضرة الروض الوريق
واذكر تهادينا على
كوخ الطفولة والطريق
وأنا وأنت كموثقين،
نحنّ في القيد الوثيق
نمشي كحيرة زورق
في غضّبة اللّج العميق
ونساجل الغربان في
الوديان أصوات النعيق
وإذا ذكرت لي الطعام
أكلت أنفاسي وريقي
***
أيّام كنّا نسرق الرمان
في الوادي السحيق
ونعود من خلف الطريق
وليلنا أحنى رفيق!
ونخاف وسوسة الرياح،
وخطرة الطّيف الرشيق
حتّى نوافي بيتنا
والأهل في أشقى مضيق
فيصيح عمّي والشراسة،
في محيّاه الصفيق
وهناك جدّتنا تناغينا
مناغاة الشفيق
تهوى الحياة وعمرها
أوهى من الخيط الدقيق
وأبي وأمّي حولنا
بين التنهّد والشهيق
يتشاكيان من الطوى
شكوى الغريق إلى الغريق
شكواهما صمت كما
يشكو الذُّبال من الحريق
ويحدّقان إلى السكون،
ورعشة الكوخ العتيق
واللّيل ينصت للضفادع،
وهي تهذي بالنقيق
والشهب تلمع كالكؤوس،
على شفاه من عقيق
***
وجوارنا قوم لهم
إشراقة العيش الطليق
من كلّ غِرّ لم يَمِز
بين الأغاني والنهيق
وتظنّه رجلا وخلف
ثيابه وحش حقيقي
وتراه يزعم شخصه
من جوهر المسك الفتيق
يتحادثون عن النقود،
حديث تجار الرقيق
يتخيّرون ملابسا
تصبي وتغري بالبريق
حتّى تراهم صورة
للزور والجهل الأنيق
ونماذجا برّاقة
لأناقة الخزي العريق
***
يمشون في نسج الحرير،
فهم رجال من حرير
وكأنّهم من خلق
نسّاج وخيّاط قدير
لولا خدّاع ثيابهم
كسدوا بأسواق الحمير
فقراء من خُلق الرجال،
ويسخرون من الفقير
ويسائلون مع الرجال،
عن المشاكل والمصير
ومصيرهم بيت البغي
وبيت خمّار شهير
وهناك بنت غضّة
أحلى من الورد المطير
ترنو وفي نظراتها
لغة الدعارة والفجور
وحديثها كالجدول
السلسال فضّي الخرير
حسناء تطرح حسنها
للمترفين، وللأجير
فجمالها مثل الطبيعة
للنبيل ... وللحقير
في مشيها رقص الحسان
وخفّة الطفل الغرير
ويكاد يعشق بعضها
بعضا من الحسن المثير
أودى أبوها وهو في
إشراقه العمر القصير
كان امرءاً يجد الضعيف
يمينه أقوى نصير
يحنو وينثر ماله
للطفل والشيخ الكبير
يرعى الجميع فكلّه
قلب سماويّ الضمير
جادت يداه بما لديه
وجاد بالنَّفس الأخير
فذوت صبيّته الجميلة
كالزنابق في الهجير
وبكت إلى أختي كما
يبكي الأسير إلى الأسير
ومشت على شوك المآسي
الحمر واليتم المرير
ومضت تدوس الشوك،
والرمضا على القلب الكسير
والحزن في قسماتها
كالشك في قلب الغيور
تعرى فتكسوها الطبيعة
حلّة الحسن النظير
صبغت ملامحها الطبيعة
من سنا البدر المنير
من وقدة الصيف البهيج
وهدأة اللّيل الضرير
من خفّة الشجر الصبور
على رياح الزمهرير
ومن الأشعّة والشذى
وصراحة الماء النمير
فتعانقت فيها المباهج
كالأشعّة والعبير
فجمالها قبل الحنين
وصدرها أحنى سرير!
***
قل لي، أتذكر يا أخي
من تلك جارتنا الشهيّه؟
هي فوق فلسفة التراب
وغلظة الأرض الدنيّه
رحِمت مجانين الغواية
فهي مشفقة غويّه
بنت الطبيعة فهي ظلّ
الحبّ، والدنيا الشّذيّه
كانت ربيع الأمنيات
وأغنيات الشاعريّه
فانصت إليّ فلم تزل
من قصّة الماضي بقيّه
جاءت بها الذكرى
وما الذكرى؟ خلود الآدميّه
حدّق ترى ماضيك فيها
فهي صورته الجليّه
أوّاه! ما أشقى ذكيّ القلب
في الأرض الغبيّه!
***
ما كان أذكى "مرشدا"
وأبرّ طلعته الزكيّه!
كان ابتسامات الحزين
وفرحة النفس الشجيّة
عيناه من شعل الرشاد
وكلّه من عبقريّة
إن لم يكن في الأنبياء
فروحه المثلى نبيّه
قتلته في الوادي اللّصوص
فغاب كالشمس البهيّه
كان ابن عمّي يزدريه
فلا يضيق من الزريّه
ومن ابن عمّي؟ جاهل
فظّ كليل الجاهليّه
يرنو إلينا مثلما
يرنو العقور إلى الضحيّه
نعرى، ويسبح في النقود
وفي الثياب القيصريّه
ونذوب من حرق الظماء
وعنده الكأس الرويّه
والكأس تبسم في يديه،
كابتسامات الصبيّه
والكرم في بستانه
يلد العناقيد الجنيّه
حتّى تزوّج أربعا
أشقته واحدة شقيّه
فكأنّ ثروته دخان
ضاع في غسق العشيّه
فهوى إلينا والتقينا
كالأسارى في البليّه
***
وأتى الخريف وكفّه
تومي بأشداق المنيّه
وتوقع الحيّ الفنا
فتغيّرت صور القضيّه
وتحرّك الفلك الدؤوب
فأقبلت دنيا رخيّه
وتضوّع الوادي بأنسام
الفراديس النديّه
قل لي: شقيقي هل ذكرت
عهود ماضينا القصيّه
خذها فديتك قصّة
دفاقة النجوى سخيّه
وإلى التلاقي يا أخي
في قصّة أخرى طريّه
والآن أختم الكتاب
ختامه أزكى تحيّه!
تعليقات
إرسال تعليق