الامورالوسط

الأمور الوسط

 

رأيت نفسي كلما صفا فكرهاً أو اتعظت بدارج أو زارت قبور الصالحين تتحرك همتها في طلب العزلة والإقبال على معاملة الله تعالى‏.‏ 

أتراك تريدين مني أن أسكن قفراً لا أنيس به فتفوتني صلاة الجماعة ويضيع مني ما قد علمته لفقد من أعلمه‏.‏ 

وأن آكل الجشب الذي لم أتعوده فيقع نضوي طلحاً في يومين‏.‏ 

وأن ألبس الخشن الذي لا أطيقه فلا أدري من كرب محمولي من أنا‏.‏

وأن أتشاغل عن طلب ذرية تتعبد بعدي مع بقاء القدرة على الطلب‏.‏

بالله ما نفعني العلم الذي بذلت فيه عمري إن وافقتك وأنا أعرفك غلط ما وقع لك بالعلم‏.‏ 

اعلمي أن البدن مطية والمطية إذا لم يرفق بها لم تصل براكبها إلى المنزل‏.‏ 

وليس مرادي بالرفق الإكثار من الشهوات وإنما أعني أخذ البلغة الصالحة للبدن فحينئذ يصفو الفكر ويصح العقل ويقوي الذهن‏.‏ 

ألا ترين إلى تأثير المعوقات عن صفاء الذهن في قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان وقاس العلماء على ذلك الجوع وما يجري مجراه من كونه حاقناً أو حاقباً‏.‏ 

وهل الطبع إلا ككلب يشغله الأكل فإذا رمي له ما يتشاغل به طاب له الأكل‏.‏ 

فأما الانفراد والعزلة فعن الشر لا عن الخير‏.‏ 

ولو كان فيها لك وقع خير لنقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم‏.‏ 

هيهات لقد عرفت أن أقواماً دام بهم التقلل واليبس إلى أن تغير فكرهم وقوي الخلط السوداوي عليهم فاستوحشوا من الناس ومنهم من اجتمعت له من المآكل الردية أخلاط مجة فبقي اليوم واليومين والثلاثة لا يأكل وهو يظن ذلك من أمداد اللطف وإذا به من سوء الهضم‏.‏ 

وفيهم من ترقى به الخلط إلى رؤية الأشباح فيظنها الملائكة‏.‏ 

فالله الله في العلم والله الله في العقل فإن نور العقل لا ينبغي أن يتعرض لإطفائه والعلم لا يجوز الميل إلى تنقيصه‏.‏ 

فإذا حفظا حفظاً وظائف الزمان ودفعا ما يؤذي وجلبا ما يصلح وصارت القوانين مستقيمة في المطعم والمشرب والمخالطة‏.‏ 

فقالت لي النفس‏:‏ فوظف لي وظيفة واحسبني مريضاً قد كتبت له شربة‏.‏ 

فقلت لها‏:‏ قد دللتك على العلم وهو طبيب ملازم‏.‏ 

يصف كل لحظة لكل داء يعرض دواء يلائم‏.‏ 

وفي الجملة ينبغي لك ملازمة تقوى الله عز وجل في المنطق والنظر وجميع الجوارح وتحقق الحلال في المطعم وإيداع كل لحظة ما يصلح لها من الخير ومناهبة الزمان في الأفضل ومجانبة ما يؤدي إلى من نقص ربح أو وقوع خسران‏.‏ 

ولا تعملي عملاً إلا بعد تقديم النية‏.‏ 

وتأهبي لمزعج الموت فكأن قد وما عندك من مجيئه في أي وقت يكون‏.‏ 

ولا تتعرضي لمصالح البدن بل وفريها عليه وناوليه إياها على قانون الصواب لا على مقضى الهوى فإن إصلاح البدن سبب لإصلاح الدين‏.‏ 

ودعي الرعونة التي يدل عليها الجهل لا العلم من قول النفس فلان يأكل الخل والبقل وفلان لا ينام الليل فاحملي ما تطيقين وما قد علمت قوة البدن عليه‏.‏ 

فإن البهيمة إذا أقبلت إلى نهر أو ساقية فضربت لتقفز لم تفعل حتى تزن نفسها فإن علمت فيها قوة الطفر طفرت وإن علمت أنها لا تطيق لم تفعل ولو قتلت‏.‏ 

وليس كل الأبدان تتساوى في الإطاقة ولقد حمل أقوام من المجاهدات في بداياتهم أشياء أوجبت أمراضاً قطعتهم عن خير وتسخطت قلوبهم بوقوعها فعليك بالعلم‏.‏ 

فإنه شفاء من كل داء والله الموفق‏.‏ 

عجبت من أقوام يدعون العلم ويميلون إلى التشبيه بحملهم الأحاديث على ظواهرها فلو أنهم أمروها كما جاءت سلموا لأن من أمر ما جاء ومر من غير اعتراض ولا تعرض فما قال شيئاً لا له ولا عليه‏.‏ 

ولكن أقواماً قصرت علومهم فرأت أن حمل الكلام على غير ظاهره نوع تعطيل ولو فهموا سعة اللغة لم يظنوا هذا‏.‏ 

وما هم إلا بمثابة قول الحجاج لكاتبه وقد مدحته الخنساء فقالت‏:‏ إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة شفاها فلما أتمت القصيدة قال‏:‏ لكاتبه إقطع لسانها فجاء ذاك الكاتب المغفل بالموسى‏.‏ 

فقالت له‏:‏ ويلك إنما قال أجزل لها العطاء‏.‏ 

ثم ذهبت إلى الحجاج فقالت‏:‏ كاد والله يقطع مقولي‏.‏ 

فكذلك الظاهرية الذين لم يسلموا بالتسليم فإنه من قرأ الآيات والأحاديث ولم يزد لم ألمه وهذه طريقة السلف‏.‏ 

فأما من قال‏:‏ الحديث يقتضي كذا ويحمل على كذا مثل أن يقول‏:‏ استولى على العرش بذاته ولقد عجبت لرجل أندلسي يقال له ابن عبد البر صنف كتاب التمهيد فذكر فيه حديث النزول إلى السماء الدنيا فقال‏:‏ هذا يدل على أن الله تعالى على العرش‏.‏ 

لأنه لولا ذلك لما كان لقوله ينزل معنى‏.‏ 

وهذا كلام جاهل بمعرفة الله عز وجل لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من نزول الأجسام‏.‏ 

فقاس صفة الحق عليه‏.‏ 

فأين هؤلاء وأتباع الأثر‏.‏ 

ولقد تكلموا بأقبح ما يتكلم به المتأولون ثم عابوا المتكلمين‏.‏ 

واعلم أيها الطالب للرشاد أنه سبق إلينا من العقل والنقل أصلان راسخان‏.‏ 

عليهما مر الأحاديث كلها‏.‏ 

أما النقل فقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏ «‏ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ‏» ‏‏.‏ 

ومن فهم هذا لم يحمل وصفاً له على ما يوجبه الحس‏.‏ 

وأما العقل فإنه قد علم مباينة الصانع للمصنوعات واستدل على حدوثها بتغيرها ودخول الانفعال عليها فثبت له قدم الصانع‏.‏ 

وا عجباً كل العجب من راد لم يفهم طبيعة الكلام‏.‏ 

أوليس العقل إذا استغنى في هذا صرف الأمر عن حقيقته‏.‏ 

لما ثبت عند من يفهم ماهية الموت‏.‏ 

فقال‏:‏ الموت عرض يوجب بطلان الحياة‏.‏ 

فكيف يمات الموت‏.‏ 

فإذا قيل له فما تصنع بالحديث‏.‏ 

قال‏:‏ هذا ضرب مثل بإقامة صورة ليعلم بتلك الصورة الحسية فوات ذلك المعنى‏.‏ 

قلنا له‏:‏ فقد روي في الصحيح‏:‏ تأتي البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان‏.‏ 

فقال الكلام لا يكون غمامة ولا يتشبه بها‏.‏ 

قلنا له أفتعطل النقل قال‏:‏ لا ولكن أقول يأتي ثوابهما‏.‏ 

قلنا‏:‏ فما الدليل الصارف لك عن هذه الحقائق‏.‏ 

فقال‏:‏ علمي بأن الكلام لا يتشبه بالأجسام والموت لا يذبح ذبح الأنعام ولقد علمتم سعة لغة العرب‏.‏ 

ما ضاقت أعطانكم من سماع مثل هذا‏.‏ 

فقال العلماء صدقت‏:‏ هكذا نقول في تفسير مجيء البقرة وفي ذبح الموت‏.‏ 

فقال‏:‏ واعجبا لكم صرفتم عن الموت والكلام ما لا يليق بهما حفظاً لما علمتم من حقائقهما فكيف لم تصرفوا عن الإله القديم ما يوجب التشبيه له بخلقه بما قد دل الدليل على تنزيهه فما زال يجادل الخصوم بهذه الأدلة‏.‏ 

ويقول‏:‏ لا أقطع حتى أقطع فما قطع حتى قطع‏.‏ 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4- قبائل تشترك مع الزرانيق في الأرض و التاريخ و المعتقد و الفلكلور و العادات و التقاليد و ارتضت الانضواء في الاتحاد الكونفدرالي " الزرانيق " لأغراض الحماية و المكاسب الاقتصادية